السودان على مفترق طرق: جبريل إبراهيم بين طموح استعادة الخرطوم وتحديات الحرب الأهلية
منذ اندلاع الحرب الأهلية في السودان في أبريل 2023، يعيش البلد أزمة وجودية تهدد وحدته ومستقبله. في خضم هذا الصراع الدامي بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، قدم وزير المالية الدكتور جبريل إبراهيم تصريحات جريئة خلال مقابلة مع قناة "الجزيرة مباشر"، كشف فيها عن خطط الحكومة للعودة إلى الخرطوم كمركز لعملها، وتعهد بالحفاظ على مدينة الفاشر من سيطرة الدعم السريع، مع التأكيد على استمرار العلاقات الدبلوماسية مع الدول الداعمة للدعم السريع، واستعداد الحكومة للتفاوض مع الجهات التي تقف وراء هذه القوات لإنهاء الحرب. تأتي هذه التصريحات في سياق اقتصادي منهار وأزمة إنسانية متفاقمة، مما يثير تساؤلات حول جدواها وإمكانية تحقيقها. في هذا المقال، نستعرض هذه التصريحات، نحلل دلالاتها، ونناقش التحديات التي تواجه جبريل إبراهيم كوزير مالية وزعيم لحركة العدل والمساواة، مع تسليط الضوء على وجهات النظر المتباينة.
العودة إلى الخرطوم: رؤية رمزية تواجه عقبات واقعية
أعلن جبريل إبراهيم أن الحكومة ستستأنف عملها من الخرطوم قريباً، متخلية عن بورتسودان كمقر مؤقت. الخرطوم، بوصفها القلب السياسي والإداري للسودان، تمثل رمزاً للسلطة والوحدة الوطنية. لكن هذا الطموح يصطدم بواقع معقد. المدينة تشهد اشتباكات مستمرة، مع سيطرة قوات الدعم السريع على أجزاء واسعة منها. استعادة السيطرة تتطلب انتصارات عسكرية حاسمة، وهو أمر يعاني منه الجيش بسبب نقص الموارد المالية واللوجستية.
إضافة إلى ذلك، الحرب دمرت البنية التحتية في الخرطوم، من مبانٍ حكومية إلى شبكات الكهرباء والمياه. جبريل قدر خسائر البنية التحتية بمليارات الدولارات في حوار مع "الجزيرة نت"، وهي أرقام تفوق قدرات اقتصاد فقد 80% من إيراداته، مع انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 28% بنهاية 2024، وفقاً لتوقعاته. المحللون منقسمون: البعض يرى أن الإعلان عن العودة إلى الخرطوم محاولة لتعزيز الثقة العامة وإظهار قوة الحكومة، لكنه يفتقر إلى أساس واقعي في المدى القريب. آخرون يدعون إلى التركيز على تثبيت الاستقرار في بورتسودان، التي أثبتت فعاليتها كمركز إداري. هذا الانقسام يكشف الضغوط التي يواجهها جبريل لتحويل رؤيته إلى خطة قابلة للتنفيذ في ظل اقتصاد منهك وصراع مستمر.
الفاشر: معركة رمزية تحمل أبعاداً إنسانية
في حديثه عن دارفور، أكد جبريل أن الفاشر، عاصمة شمال دارفور، لن تسقط بيد قوات الدعم السريع، وإن حدث ذلك، فإن الجيش سيستعيدها بالقوة. كما نفى أي توجه للانفصال في دارفور، رداً على مخاوف من محاولات الدعم السريع فرض سيطرة إقليمية. الفاشر ليست مجرد نقطة عسكرية؛ إنها مركز إنساني وثقافي يجمع الجيش والقوات المشتركة، بما في ذلك حركة العدل والمساواة التي يقودها جبريل، في مواجهة قوات الدعم السريع.
التحدي الأبرز في الفاشر هو الأزمة الإنسانية. المدينة تعاني نقصاً حاداً في الغذاء والدواء، مع حصار جزئي يفاقم معاناة السكان. الحفاظ على الفاشر دون تفاقم هذه الأزمة يتطلب تنسيقاً دقيقاً بين العمليات العسكرية وتوصيل المساعدات، وهو تحدٍ لوجستي معقد. جبريل أشاد بدور القوات الجوية في صد هجمات الدعم السريع، لكن الاعتماد الكبير على القوة العسكرية قد يثير انتقادات من منظمات إنسانية تحذر من تصعيد النزاع في مناطق مكتظة بالمدنيين.
من جهة أخرى، يرى منتقدون أن تصريحات جبريل مبالغ فيها، خاصة مع تقدم الدعم السريع في مناطق أخرى بدارفور. هناك مخاوف من أن تركيز الحكومة على الحلول العسكرية قد يهمل الحوار مع القبائل المحلية، التي تشعر بالتهميش في ظل هيمنة حركات مسلحة مثل حركة جبريل. هذه الانتقادات تعكس التوتر بين دوره كوزير يسعى لاستقرار البلاد، ودوره كزعيم حركة تدافع عن مصالحها الإقليمية، مما يضعه في موقف حساس.
الدبلوماسية تحت النار: توازن دقيق أم تنازل مضطر؟
أحد أبرز تصريحات جبريل كان تأكيده على استمرار العلاقات الدبلوماسية مع الدول التي تدعم قوات الدعم السريع، مثل الإمارات وتشاد، لاعتبارات دبلوماسية ووجود ملايين اللاجئين السودانيين في هذه الدول. جبريل اتهم هذه الدول بتزويد الدعم السريع بالأسلحة عبر منافذ مثل تشاد، وأشار إلى دعم من كينيا وقوات حفتر في ليبيا. لكنه برر الحفاظ على العلاقات بحماية اللاجئين وتجنب العزلة الدبلوماسية.
هذا الموقف يعكس توازناً دبلوماسياً دقيقاً، لكنه أثار جدلاً داخلياً. منتقدون يرون أن الحكومة تظهر ضعفاً في مواجهة الدول الداعمة للدعم السريع، وأن الاحتفاظ بالعلاقات قد يُفسر كتساهل مع من يطيل أمد الحرب. على النقيض، يدافع آخرون عن هذا النهج، معتبرين أن حماية اللاجئين وتأمين دعم دولي أولويات لا يمكن التغاضي عنها، خاصة في ظل اقتصاد يعتمد على المساعدات الخارجية. كوزير مالية، يواجه جبريل ضغوطاً للحصول على تمويل لإعادة الإعمار ودعم الحرب، مما قد يدفعه لتجنب التصعيد مع دول مثل الإمارات، التي تُعد لاعباً اقتصادياً بارزاً في المنطقة.
التفاوض لإنهاء الحرب: خطوة جريئة أم إقرار بالضعف؟
أعرب جبريل عن استعداد الحكومة للتفاوض مع الجهات التي تقف وراء الدعم السريع، في إشارة إلى دول مثل الإمارات. هذه الدعوة تأتي بعد مفاوضات متعثرة، مثل منصة جنيف، التي لم تحقق وقفاً شاملاً لإطلاق النار، لكنها أسفرت عن تفاهمات جزئية مثل تسهيل وصول المساعدات عبر معبر أدري. التفاوض مع أطراف خارجية يتطلب وساطة دولية قوية، وهو أمر صعب في ظل تجاهل المجتمع الدولي للأزمة السودانية، كما أشار جبريل سابقاً.
داخلياً، التفاوض قد يثير انقسامات بين القوى المدنية، التي تطالب بحل سياسي شامل، والقوى العسكرية التي تفضل الحسم العسكري. جبريل، كرئيس لحركة العدل والمساواة، يواجه اتهامات بتغليب المصالح العسكرية، مما يعقد دوره كوسيط محتمل. بعض السودانيين يرون أن دعوته للتفاوض تعكس ضعف موقف الجيش، بينما يراها آخرون خطوة ضرورية لتجنب المزيد من الدمار. هناك أيضاً مخاوف من أن التفاوض مع أطراف خارجية دون معالجة الانقسامات الداخلية قد يؤدي إلى تسويات لا تخدم مصالح السودان على المدى الطويل.
تحديات جبريل إبراهيم: بين إدارة اقتصاد منهار وصراع سياسي
كوزير مالية وزعيم حركة مسلحة، يواجه جبريل تحديات معقدة. اقتصادياً، يعاني السودان من انهيار العملة، حيث بلغ سعر الدولار 2700 جنيه سوداني في السوق الموازي، مقارنة بـ600 جنيه قبل الحرب. التضخم وصل إلى 142.34% في فبراير 2025، مما أدى إلى تدهور القدرة الشرائية للمواطنين. جبريل أكد أن الاقتصاد لا يزال متماسكاً، مشيراً إلى سيطرة الحكومة على مناجم الذهب وتحسن الأوضاع بفضل التطبيقات الذكية. لكن هذه التصريحات قوبلت بانتقادات من خبراء يرون أن الحكومة تتجاهل الأزمة الإنسانية، خاصة مع نفي جبريل لوجود مجاعة رغم تحذيرات الأمم المتحدة من كارثة إنسانية.
سياسياً، يُتهم جبريل بالتركيز على مصالح حركته في دارفور، خاصة في قطاع التعدين، مما أثار انتقادات من تحالفات مثل "صمود". دوره المزدوج كوزير وزعيم حركة مسلحة يجعله هدفاً لانتقادات القوى المدنية، التي ترى أن الحكومة تميل للعسكرة على حساب الحلول السياسية. هذه التحديات تضع جبريل في موقف حرج، حيث يتعين عليه إدارة اقتصاد منهار، دعم الجيش، والحفاظ على التوازن الدبلوماسي، مع مواجهة ضغوط داخلية وخارجية.
وجهات نظر متباينة: بين التأييد والنقد
- مؤيدو الحكومة: يرون أن جبريل يقود الاقتصاد في ظروف استثنائية، وأن تصريحاته تعكس ثقة في قدرة الجيش على حسم الصراع. مبادرات مثل "راجعين" لعودة النازحين تُعد خطوة إيجابية لاستعادة الحياة الطبيعية.
- المعارضة المدنية: تتهم جبريل بالتركيز على مصالح حركته على حساب الأزمة الإنسانية. نفيه للمجاعة يُعتبر تجاهلاً لواقع الملايين الذين يعتمدون على المساعدات.
- الرأي الدولي: المجتمع الدولي يتجاهل السودان إلى حد كبير، مما يحد من قدرة جبريل على تأمين دعم مالي أو دبلوماسي. لكن هناك تفاؤل حذر بإمكانية مشاركة منظمات دولية في إعادة الإعمار إذا توقفت الحرب.
الخلاصة: السودان أمام اختبار البقاء
تصريحات جبريل إبراهيم تجمع بين الطموح والبراغماتية، تسعى لاستعادة السيطرة على الخرطوم، تأمين الفاشر، الحفاظ على علاقات دبلوماسية، وفتح أبواب التفاوض. لكن هذه الأهداف تواجه عقبات هائلة: اقتصاد منهار، أزمة إنسانية، وضغوط سياسية داخلية وخارجية. العودة إلى الخرطوم، رغم رمزيتها، تبقى بعيدة المنال دون موارد عسكرية ومالية كافية. كذلك، حماية الفاشر والتفاوض مع داعمي الدعم السريع تتطلب توازناً دقيقاً يختبر قدرات الحكومة.
جبريل، بدوره المزدوج كوزير مالية وزعيم حركة العدل والمساواة، يقف في قلب هذه الأزمة. خطابه المتفائل، رغم هدفه تعزيز الثقة، قد يُنظر إليه كمنفصل عن الواقع، خاصة مع انتقادات حول تجاهل الأزمة الإنسانية وتغليب مصالح حركته. نجاح رؤيته يعتمد على قدرة الحكومة على تحويل المكاسب العسكرية إلى استقرار سياسي واقتصادي، تأمين دعم دولي، وإشراك كل الأطراف في حوار شامل يعالج جذور الصراع. السودان اليوم أمام اختبار البقاء، ومستقبله يتوقف على قدرة قادته، بمن فيهم جبريل، على تجاوز التحديات وبناء أمل جديد لشعب منهك.
المصادر
- الجزيرة مباشر: مقابلة جبريل إبراهيم، 2025.
- الجزيرة نت: تقارير عن الاقتصاد السوداني وخسائر الحرب، 2024-2025.
- سودان أخبار: تحليل تصريحات جبريل إبراهيم، 2025.
- TRENDS Research & Advisory: تقرير عن الأزمة السودانية، 2024.
- صحيفة التغيير: مقالات نقدية عن أداء الحكومة السودانية، 2025.
- وزارة المالية السودانية: بيانات عن الاقتصاد والتضخم، 2025.
- النيلين: تقارير عن الوضع في دارفور، 2025.
- السوداني نيوز: تغطية الأزمة الإنسانية في الفاشر، 2025.
- الحميش: تحليل العلاقات الدبلوماسية السودانية، 2025.
- راديو دبنقا: تقارير عن الأوضاع في السودان، 2025.
0 Comments