تدفّق النفط بين جوبا والخرطوم يعيد رسم خارطة العلاقات... فهل يقود إلى سلام دائم أم هدنة اقتصادية مؤقتة
مقدمة: النفط في قلب المشهد السوداني
من جديد، يعود النفط إلى واجهة الأحداث السياسية والاقتصادية في السودان، لكن هذه المرة ليس فقط كمورد اقتصادي، بل كأداة دبلوماسية مرنة وربما بوابة إلى التهدئة.
مع إعلان استئناف تصدير نفط جنوب السودان عبر الأراضي السودانية ووصول الشحنات إلى ميناء بشائر في أبريل 2025، تعالت الآمال في أن يُسهم هذا التطور في فتح كوة ضوء نحو تسوية الصراع المستمر منذ عامين.
ولكن، هل تكفي براميل النفط لتبريد نار الحرب؟
وهل يمكن لاتفاق اقتصادي هش أن يضع الأساس لسلام دائم في بلد يشهد أسوأ أزمة سياسية وعسكرية في تاريخه الحديث؟ هذا التحقيق الصحفي يحاول الإجابة على هذه الأسئلة من خلال تحليل خلفيات الاتفاق، الأطراف المعنية، والتداعيات المحتملة، وذلك ضمن مقاربة شاملة تربط بين الاقتصاد والسياسة، في ظل واقع شديد التعقيد.
خلفية: النفط... الثروة المشتركة التي لا تعرف الحدود
منذ انفصال جنوب السودان عن السودان في يوليو 2011، ظل النفط يمثل نقطة تقاطع مركزية بين البلدين. فبينما يقع ما يقرب من 75% من الاحتياطي النفطي في جنوب السودان، فإن البنية التحتية اللازمة للتكرير والتصدير تقع في شمال السودان، وتحديدًا في مصفاة الجيلي وخط أنابيب النيل الكبرى الذي يصل إلى ميناء بشائر على البحر الأحمر.
ولم يكن هذا الارتباط مجرد تفصيل تقني، بل أصبح عاملًا حاسمًا في العلاقات الثنائية، حيث وُقعت في عام 2012 "اتفاقية التعاون النفطي"، التي ضمنت تصدير النفط الجنوبي عبر السودان مقابل رسوم عبور تصل إلى 14 دولارًا للبرميل. ورغم التوترات السياسية، ظل التعاون النفطي قائمًا حتى اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023.
توقف النفط وتداعياته: عندما صمتت الأنابيب
مع اشتداد المعارك بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في العام 2023، تأثرت منشآت النفط السودانية بشكل مباشر، خاصة في محطات الضخ وأبراج الاتصالات ومصفاة الجيلي شمال الخرطوم. وفي فبراير 2024، أعلنت الحكومة السودانية حالة "القوة القاهرة"، متذرعة بتجمد النفط في الأنابيب نتيجة توقف التشغيل ونقص الصيانة، وهو ما أدى إلى توقف كامل لتصدير نفط جنوب السودان عبر الأراضي السودانية.
هذا التوقف كان كارثيًا بالنسبة لجوبا، التي تعتمد على النفط لتمويل أكثر من 90% من ميزانيتها. ووفقًا لتقارير وزارة المالية في جنوب السودان، فقد أدى التوقف إلى انخفاض الإيرادات بنسبة 60%، مما تسبب في أزمة سيولة وركود اقتصادي عميق.
اتفاق جديد... بوساطة الضرورة
في يناير 2025، أعلنت حكومة جنوب السودان على لسان وزير النفط بوت كانج شول، التوصل إلى اتفاق لاستئناف التصدير اعتبارًا من 8 يناير. ولم تُكشف تفاصيل الاتفاق كاملة، لكن مصادر دبلوماسية أكدت أن جوبا تفاوضت مباشرة مع قيادات من قوات الدعم السريع لتأمين خط الأنابيب الذي يمر في مناطق تسيطر عليها هذه القوات، خاصة في ولاية النيل الأبيض وجنوب كردفان.
وفي المقابل، لم تصدر الحكومة السودانية (الممثلة بالجيش) اعتراضًا علنيًا على الاتفاق، ما فسره مراقبون بأنه قبول ضمني بالأمر الواقع، أو على الأقل تراجع في القدرة على السيطرة الكاملة على هذا المرفق الاستراتيجي.
هل النفط أداة سلام أم استمرار للصراع بشكل ناعم؟
العودة إلى تصدير النفط ليست مجرد عملية تقنية، بل تعكس ديناميكيات جديدة في موازين القوى. ففي الوقت الذي تخوض فيه الأطراف السودانية حربًا ضارية، تتعاون على تأمين النفط، ما يشير إلى أن "المصالح" قد تتجاوز "الخطاب السياسي".
لكن، هل يمثل ذلك مقدمة لسلام؟ يرى الدكتور حامد سليمان، الخبير في شؤون الطاقة ووكيل وزارة النفط الأسبق، أن الاتفاق "خطوة عقلانية"، لكنه لا يعوّل عليه سياسيًا، مضيفًا:
> "ما نراه اليوم هو تحالف مصلحي مؤقت، وليس إطارًا دائمًا. النفط يضمن موارد للأطراف، لكنه لا يعالج جذور الصراع السياسي، ولا يُعيد بناء الدولة."
أما المحلل السياسي عبد الرحمن العوض، فيقول إن "استئناف التصدير قد يشكل قاعدة للحوار إذا تم توظيفه ضمن مبادرة شاملة للسلام"، لكنه يحذّر من أن "النفط سبق أن كان سببًا في تفجير النزاعات، وإذا لم تُحسن إدارته، فقد يتحول إلى فتيل صراع جديد."
أبعاد اقتصادية: من الخسارة إلى الإنقاذ؟
على الصعيد الاقتصادي، يُتوقع أن يُسهم استئناف تصدير النفط في تحسين الأوضاع المالية لكلا البلدين.
فبالنسبة لجنوب السودان، فإن التقديرات تشير إلى أنه يمكنه تصدير نحو 130 ألف برميل يوميًا عبر السودان، ما يوفر عائدات شهرية قد تصل إلى 200 مليون دولار بأسعار السوق الحالية.
أما السودان، فسيحصل على رسوم عبور ومعالجة قد تتجاوز 50 مليون دولار شهريًا، وهي مبالغ حيوية لاقتصاد يعاني من شح النقد الأجنبي وتدهور حاد في العملة المحلية.
لكن الخبراء يرون أن هذه الأرقام تبقى نظرية ما لم تتوفر بيئة تشغيل مستقرة، وبنية تحتية آمنة، وإدارة مالية شفافة.
المجتمع الدولي... يراقب من بعيد
رغم أن استئناف تصدير النفط يعد تطورًا مهمًا، فإن ردود الفعل الدولية ظلت محدودة. واكتفى الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة ببيانات ترحيب حذرة، داعين إلى "استغلال الفرصة من أجل تحقيق سلام شامل".
لكن اللافت أن معظم القوى الدولية لم تُبادر بدعم فني أو مالي مباشر لإعادة تأهيل البنية التحتية النفطية، أو لضمان استمرار الضخ، ما يُظهر ترددًا واضحًا في الانخراط الجاد بالملف السوداني، ربما نتيجة تعقيداته وتعدد أطرافه.
هل يمهّد النفط لسلام شامل؟ رؤية تحليلية
وفقًا لتحليل "مجموعة السودان للسياسات الاقتصادية" الصادر في مارس 2025، فإن استئناف تصدير النفط قد يكون فرصة تاريخية لبناء إطار تعاوني بين القوى السودانية، لكن بشرط توفر الإرادة السياسية وتوسيع دائرة الحوار.
ويؤكد التقرير أن تحويل اتفاق نفطي إلى اتفاق سياسي يتطلب:
ضمان حيادية العائدات المالية ومنع استخدامها لتمويل القتال.
إشراك كل الأطراف في إدارة الملف الاقتصادي بما يحقق الشفافية.
ربط العائدات بإعادة الإعمار وتحسين الخدمات العامة.
إشراف دولي فني لضمان استدامة العمليات.
وإلا، فإن الاتفاق سيظل "تفاهمًا تكتيكيًا" يُنهي الأزمة المالية مؤقتًا، لكنه لا يضع حدًا للأزمة السياسية.
النفط كمدخل للحوار؟ تجارب مقارنة
تشير تجارب من دول أخرى مثل نيجيريا والعراق وليبيا إلى أن الموارد الطبيعية يمكن أن تُستخدم كمنصّة للسلام إذا ما أُدرجت ضمن مسارات تفاوضية أوسع، ترتكز على العدالة في التوزيع، وتعزيز الحكم المحلي، ومحاربة الفساد.
وفي السياق السوداني، يرى المحلل الليبي محمد البكوش أن الاتفاق بين جوبا وقوات الدعم السريع يشبه التفاهمات التي حدثت بين حكومة طرابلس وبعض المجموعات المسلحة لتأمين الحقول والمنشآت النفطية، والتي قادت لاحقًا إلى تفاهمات أمنية أكبر.
المخاطر المحتملة: من عسكرة النفط إلى إعادة إنتاج الصراع
في المقابل، فإن هناك من يرى في هذا الاتفاق "عسكرة للنفط"، أي استخدامه كأداة لتغذية الجماعات المسلحة بالموارد، دون أن يمر عبر مؤسسات الدولة، ما يُضعف هيبة الدولة المركزية، ويُغذي منطق المليشيات.
وقد أعربت بعض قوى المجتمع المدني في السودان عن مخاوف من أن تتحول عائدات النفط إلى وقود لاستمرار الحرب بدلًا من أن تكون أداة لإطفائها، داعين إلى رقابة مالية دولية صارمة.
خاتمة: ما بعد النفط... إلى أين؟
بين التفاؤل الحذر والتخوف المشروع، يبدو أن اتفاق تصدير نفط جنوب السودان يمثل فرصة نادرة لالتقاط الأنفاس في خضم حرب مدمّرة. لكن تحويله إلى نقطة انطلاق نحو سلام دائم يتطلب أكثر من ضخ النفط.
إنه يتطلب إرادة سياسية، وضمانات محلية ودولية، وتوسيع التفاهمات لتشمل ملف السلام الشامل، وليس فقط "هدنة اقتصادية" تضمن الموارد، وتُبقي جذور الصراع حيّة.
المصادر:
1. وكالة الأنباء السودانية (سونا)، 22 أبريل 2025
2. تصريح وزير النفط في جنوب السودان – بوت كانج شول، يناير 2025
3. تقرير مجموعة السودان للسياسات الاقتصادية، مارس 2025
4. مقابلة مع د. حامد سليمان، خبير نفطي، صحيفة "التيار"، فبراير 2025
5. الأمم المتحدة – بيان بعثة يونيتامس حول السودان، مارس 2025
6. تحليل المقارنة – محمد البكوش، مركز الدراسات الإقليمية – طرابلس، فبراير 2025
الكلمات المفتاحية :
اتفاق تصدير نفط جنوب السودان
استئناف تصدير النفط عبر ميناء بشائر
الحرب في السودان 2023
قوات الدعم السريع والجيش السوداني
النفط والسلام في السودان
التعاون الاقتصادي بين السودان وجنوب السودان
خط أنابيب النيل الكبرى
أزمة الطاقة في السودان
مفاوضات السلام في السودان
مستقبل السودان بعد الحرب
0 Comments