الصفقات الخفية في إعلام الحرب:
كيف تحوّل دعم الجيش السوداني إلى بوابة لتعيينات مشبوهة؟
مقدمة
في الوقت الذي يخوض فيه السودان واحدة من أكثر الحروب دموية في تاريخه الحديث، تتكشف فصول جديدة من الصراعات الخفية التي تدور خلف الكواليس، ليس في ميادين القتال، بل في دهاليز السلطة والإعلام. فقد أثار قرار وزير الإعلام المكلف خالد الاعيسر بتعيين ملحقين إعلاميين في سفارتي السودان بالقاهرة وأديس أبابا جدلًا واسعًا، سرعان ما تحوّل إلى فضيحة سياسية أعادت فتح ملف
"الامتيازات مقابل الولاء".
مفارقة الإعلام الحربي
بينما يفترض أن يكون الإعلام صوتًا للمواطن والحقائق، تحوّل مؤخرًا إلى أداة تفاوض، حيث بدأت تظهر مطالبات متكررة من إعلاميين محسوبين على معسكر الجيش، يطالبون بمقابل مالي أو منصب رسمي نظير دعمهم الإعلامي للمؤسسة العسكرية. هذه الظاهرة الخطيرة تطرح تساؤلات حول أخلاقيات المهنة، ومدى تغلغل الفساد السياسي في المجال الإعلامي.
خالد الاعيسر: من وزير مكلف إلى لاعب في دهاليز التوظيف الدبلوماسي
بحسب صحيفة "الراكوبة"، فإن الاعيسر أقدم على تعيين كل من محمد حامد جمعة ملحقًا إعلاميًا في سفارة السودان بإثيوبيا، وعفراء فتح الرحمن في القاهرة، دون المرور بالإجراءات الرسمية المعروفة عبر وزارة الخارجية أو مجلس الوزراء. هذا التجاوز أُعتبر خرقًا صريحًا للائحة الخدمة المدنية وتعديًا على قرارات تقليل الإنفاق التي أُقرت سابقًا.
المثير أن هذه التعيينات تطلّبت ميزانية تقدّر بـ20 ألف دولار لكل ملحقية، تشمل رواتب شهرية بنحو 10 آلاف دولار، رغم أن هناك قرارًا رسميًا بإغلاق مثل هذه الملحقيات لتقليل الصرف.
التحايل على القوانين: التلاعب بالمُسمّيات
وفقًا لتسريبات "الراكوبة"، فإن الفكرة كانت تقوم على تغيير مسمى "ملحق إعلامي" إلى "مدير مكتب إعلامي"، في محاولة للتحايل على قرار مجلس الوزراء، وجعل الموظف يتقاضى راتبًا محليًا دون الحاجة إلى الإجراءات التقليدية. إلا أن الاعيسر اختار المسار الأصعب والأكثر تكلفة، دون التنسيق مع الخارجية أو المالية، بل اكتفى بمشورة جهاز المخابرات العامة فقط، ما أثار شكوكًا إضافية.
دور "أم وضاح" وميرغني إدريس: سلطة خارج المؤسسات
كشفت مصادر مطلعة أن الكاتبة الصحفية حنان عبد الحميد المعروفة بـ"أم وضاح" كانت من أبرز المعارضين لقرار الاعيسر، وقد تواصلت مباشرة مع رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وأيضًا مع مدير الصناعات الدفاعية الفريق أول ميرغني إدريس، وهو ما أدى إلى إيقاف القرار. هذا التدخل أثار تساؤلات عن مدى تأثير الشخصيات المدنية على قرارات عليا في الدولة، وفتح الباب أمام الحديث عن نفوذ الصحفيين القريبين من الجيش.
اللافت أن "أم وضاح" لم تنفِ تواصلها مع البرهان، لكنها استغربت كيفية تسريب تفاصيل مكالمة خاصة، وعلقت بأن
"لا ثالث بيننا إلا الله".
إعلاميون يطالبون بالمقابل: "الثمن مقابل الولاء"؟
أشارت مصادر إعلامية إلى أن عددًا من الصحفيين المؤيدين للجيش، خصوصًا المقيمين في القاهرة، بدأوا في التواصل المباشر مع أعضاء مجلس السيادة للمطالبة بتعيينهم في مناصب حكومية أو دبلوماسية، باعتبارهم "قدموا خدمات إعلامية" للمؤسسة العسكرية. أحد الأمثلة البارزة هو محمد عبد القادر، رئيس تحرير صحيفة "الكرامة"، والذي تم استبعاده من التعيين رغم توقعات سابقة بمنحه منصب ملحق القاهرة، وهو ما فُسِّر بأنه نتيجة لصراعات داخل معسكر الجيش نفسه، وتدخل من إعلاميين آخرين كـ الطاهر ساتي.
ردود الأفعال: انقسام في المعسكر المؤيد
تصريحات الإعلامي يوسف السماني، مؤسس إذاعة الرابعة، تعكس حجم الصدمة والانقسام:
"إذا كان الوقوف مع الجيش له ثمن،
فماذا نقول لمن فقدوا أرواحهم؟
هل نعينهم مستشارين في الجنة؟". هذه الكلمات كانت بمثابة صفعة أخلاقية للمطالبين بالامتيازات مقابل دعمهم الإعلامي.
وفي المقابل، اختارت عفراء فتح الرحمن الرد بهدوء، حيث زارت الصحفي المعروف أشرف عبد العزيز – المحسوب على معسكر "الحرية والتغيير" – وتمنّت له السلامة، مؤكدة عزمها التفرغ لمشروعها الإعلامي، ورفضها لأي تعيين كموظف محلي، ما يُعد تراجعًا عن قرار سابق.
من يمول الإعلام؟
تثير هذه القضية أيضًا ملف التمويل الإعلامي في السودان ما بعد الحرب. فبحسب "الراكوبة"، فإن الإعلامية نسرين النمر أسست قناة "العنوان" بدعم مباشر من جهات عسكرية، بينما يدير زوجها قناة "الزرقاء" التي تموّلها مجموعة هشام السوباط، أحد رجال الأعمال المقربين من المؤسسة العسكرية. هذا يفتح ملف "الإعلام الحربي" الذي يعمل كذراع ناعمة لصالح الجيش، مقابل تمويل ضخم وتسهيلات حكومية.
تحليل: إلى أين يتجه إعلام ما بعد الثورة؟
1. انهيار المعايير المهنية:
تتراجع معايير النزاهة والاستقلالية في الإعلام السوداني يومًا بعد يوم، في ظل تحوله إلى وسيلة للارتزاق السياسي والصفقات.
2. الجيش كممول ومنتج إعلامي:
وجود قنوات ممولة من جهات عسكرية بشكل مباشر يُضعف ثقة الشارع في استقلال الإعلام، ويزيد من حدة الاستقطاب.
3. تآكل الثقة في الدولة المدنية:
تجاوز المؤسسات الدستورية مثل مجلس الوزراء ووزارة الخارجية يُظهر هشاشة النظام المدني الحالي، ويدعم خطاب الانقلابيين.
خاتمة: هل نحن أمام "دولة الإعلاميين المحسوبين"؟
تكشف قصة خالد الاعيسر و"أم وضاح" وما تبعها من تفاعلات، عن واقع مرير يتقاطع فيه الفساد السياسي مع الهشاشة الإعلامية. إن تحوّل الإعلام إلى أداة للمقايضة والابتزاز السياسي هو مؤشر خطير على ضياع المبادئ التي قامت عليها ثورة ديسمبر.
إذا لم يُوضع حد لهذه الممارسات، فإن الإعلام السوداني مهدد بفقدان آخر ما تبقّى من مصداقيته، وسيدخل في مرحلة "الدكاكين الإعلامية"، حيث تباع وتُشترى الولاءات بعملة السلطة.
---
مصادر:
1. صحيفة الراكوبة – rakobanews.com
2. بوستات منشورة على صفحات إعلاميين معروفين مثل يوسف السماني
3. تسريبات من مجموعات إعلامية مغلقة وردت في تقارير صحفية
4. تقارير إعلامية عن تمويل قناة "العنوان" و"الزرقاء" من جهات عسكرية
0 Comments