ماذا يعني استمرار الهجمات الدقيقة بالطائرات المسيّرة على أهداف استراتيجية في السودان؟
بقلم: – تحقيق استقصائي
في فجر أحد أيام أبريل 2025، تصاعدت أعمدة الدخان من مطار دنقلا الدولي، شمالي السودان، بعد استهداف مستودع وقود الطيران بطائرة مسيّرة، ما أسفر عن تدمير كافة الخزانات داخل المطار. لم تُسجَّل خسائر بشرية، إلا أن الهجوم أثار موجة جديدة من القلق حول مستقبل الحرب في السودان، وتحديدًا حول تكتيك الطائرات المسيّرة الذي بات يُغيّر من طبيعة المعارك وشكل الصراع.
وبحسب والي الولاية الشمالية، عابدين عوض الله، فإن الهجوم كان "غادرًا وجبانًا"، واتهم قوات الدعم السريع بتنفيذ الضربة الجوية، معتبرًا أنها "تستهدف المنشآت المدنية والخدمات المقدمة للمواطنين" (المصدر: وكالة السودان للأنباء – سونا).
لكن خلف هذه الكلمات الرسمية، يبرز سؤال جوهري:
لماذا تتكرر الهجمات الدقيقة بالطائرات المسيّرة على أهداف محددة داخل العمق الحكومي؟
وما الذي يعنيه استمرار هذه الظاهرة في الصراع السوداني؟
---
الطائرات المسيّرة: سلاح الفقراء الذي غيّر قواعد اللعبة
الطائرات المسيّرة، أو الدرونز، لم تعد ترفًا تقنيًا في حروب الجيوش النظامية، بل أصبحت جزءًا محوريًا من ترسانة القوى غير النظامية، كما هو الحال مع قوات الدعم السريع. هذه الطائرات توفر قدرة هجومية عالية الدقة بتكلفة منخفضة، وتمكّن الفاعلين من توجيه ضربات لأهداف استراتيجية خلف خطوط العدو دون الحاجة للسيطرة على الأرض.
وقد استخدمت قوى عديدة هذا النوع من السلاح في صراعات مختلفة، من الحوثيين في اليمن إلى حزب الله في لبنان، وحتى ميليشيات في ليبيا وإثيوبيا، ما يجعل السودان جزءًا من هذا السياق الأوسع.
تحليل عسكري: لماذا مطار دنقلا؟
من الناحية العسكرية، يُعد مطار دنقلا من المطارات الحيوية في شمال السودان. موقعه الجغرافي يجعله نقطة لوجستية مهمة في نقل الإمدادات للقوات الحكومية المتمركزة في مناطق مثل مروي وكريمة وحتى وادي حلفا. استهداف مستودع وقود الطيران فيه لا يضر فقط بالبنية التحتية، بل يعطل بشكل مباشر قدرة الحكومة على تنفيذ طلعات جوية في شمال البلاد.
ويرى المحلل العسكري السوداني، العميد (م) عبد الرحمن فضل الله، أن "هذا النوع من الهجمات يعكس قدرة الدعم السريع على تحديد الأهداف الحيوية بدقة، ما يشير إلى امتلاكهم شبكة استخباراتية واسعة، إضافةً إلى قدرة تقنية في توجيه الطائرات المسيّرة لمسافات طويلة". وأضاف في تصريح لموقع Africa Defense Review أن "تكرار هذه الضربات قد يدفع الجيش لتغيير قواعد تمركزه".
---
الأهداف النفسية والسياسية للهجمات الدقيقة
تسعى قوات الدعم السريع، من خلال هذه الهجمات، إلى تحقيق عدة أهداف:
1. بث الذعر في صفوف القوات الحكومية والمدنيين عبر ضرب منشآت مدنية يُفترض أنها آمنة.
2. إثبات التفوق التكنولوجي والتكتيكي في وجه الجيش النظامي، الذي يعتمد بشكل أساسي على سلاح الطيران التقليدي والمدفعية.
3. إضعاف ثقة الجمهور بالحكومة، خصوصًا في مناطق ما زالت تحت سيطرة الدولة، عبر الإيحاء بعدم وجود حماية حقيقية للبنى التحتية.
4. إرسال رسائل سياسية إلى المجتمع الدولي بأن قوات الدعم السريع لا تزال تملك اليد الطولى، رغم التصريحات الرسمية التي تتحدث عن انهيارها.
---
التقنيات المستخدمة: من أين تحصل الدعم السريع على المسيّرات؟
رغم فرض العقوبات الدولية ومحاولات حظر وصول الأسلحة، إلا أن تقارير متعددة تحدثت عن وصول طائرات مسيّرة لقوات الدعم السريع عبر وسطاء في ليبيا ومالي والإمارات، ومن المحتمل أيضًا من السوق السوداء الإيرانية والتركية.
وفقًا لتحقيق نشرته صحيفة The Guardian البريطانية في نوفمبر 2023، فإن "الطائرات المسيّرة التي استخدمتها قوات الدعم السريع تعتمد على تقنيات صينية وإيرانية، تم تعديلها محليًا"، مشيرة إلى أن الدعم السريع تستخدم طائرات مسيّرة من طراز Sammad وShahed-136 الإيرانية الأصل، والتي تم تهريبها عبر إقليم دارفور.
---
الجيش السوداني: ضعف الردع وتحديات المواجهة
رغم تفوق الجيش السوداني في سلاح الطيران والمدرعات، إلا أنه لم ينجح حتى الآن في خلق مظلة دفاع جوي فعالة ضد الطائرات المسيّرة، خاصة في المناطق الشمالية والشرقية.
ويرجع ذلك إلى عدة عوامل:
غياب أنظمة رادارية متقدمة تستطيع كشف الطائرات المسيّرة منخفضة الارتفاع.
اعتماد الجيش على نمط القتال التقليدي دون تطوير قدراته الإلكترونية.
انشغال الجيش في أكثر من جبهة، مما يصعّب توزيع الموارد لحماية كل المنشآت الحيوية.
---
انعكاسات إنسانية واقتصادية للهجمات بالطائرات المسيّرة
1. استهداف المدنيين والبنية التحتية
برغم مزاعم الدقة، فإن العديد من هذه الهجمات تؤدي إلى تدمير بنى تحتية مدنية مثل المستشفيات، محطات المياه، أو المطارات، ما يفاقم الأزمة الإنسانية. في حالة دنقلا، فإن تدمير مستودع الوقود قد يعطّل خدمات الطيران الإنساني والإمدادات الطبية.
2. تعقيد جهود الإغاثة
باتت منظمات الإغاثة تتردد في استخدام المطارات السودانية خشية استهدافها، مما يعوق عمليات توزيع الغذاء والدواء، خاصة في مناطق الشمال والشرق.
3. تهديد حركة التجارة الداخلية
تدمير البنية التحتية الاستراتيجية يؤدي إلى انهيار سلاسل الإمداد، ما يرفع الأسعار ويؤثر على الحياة اليومية للمواطن السوداني، خصوصًا في ظل انهيار العملة وغياب الرقابة الاقتصادية.
---
ردود الفعل الإقليمية والدولية
حتى الآن، لم يصدر رد رسمي من الهيئات الدولية بشأن هجوم مطار دنقلا، إلا أن استمرار استخدام المسيّرات قد يدفع الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي لإعادة تقييم طبيعة النزاع، خصوصًا مع تصاعد انتهاكات قوانين الحرب من الجانبين.
وفي ذات السياق، أصدرت منظمة العفو الدولية في تقريرها السنوي لعام 2024 تحذيرًا من "استخدام الأسلحة الدقيقة في استهداف المدنيين تحت ذريعة ضرب الأهداف العسكرية"، مطالبة بتحقيقات مستقلة وشفافة في كل هجوم يطال منشأة مدنية.
---
هل نحن أمام تحوّل في طبيعة الصراع السوداني؟
يبدو أن السودان دخل مرحلة "الحرب التقنية منخفضة التكلفة"، حيث أصبحت المسيّرات، والاتصالات المشفرة، والحرب السيبرانية جزءًا من أدوات الصراع، إلى جانب البنادق والمدافع.
ومع عجز الحكومة عن إنشاء شبكة دفاعية فعالة، واستمرار الدعم السريع في الحصول على دعم خارجي، فإن المشهد السوداني مرشح لمزيد من التصعيد، وربما نقل الحرب إلى مناطق كانت حتى الأمس القريب تعتبر "آمنة".
---
خاتمة: إلى أين تتجه الحرب؟
استهداف مطار دنقلا ليس سوى حلقة جديدة في سلسلة من الهجمات بالطائرات المسيّرة التي ضربت منشآت مهمة خلال الأشهر الماضية، بدءًا من مروي، إلى بورتسودان، وحتى الخرطوم نفسها. هذا التصعيد يشير إلى إعادة رسم قواعد الحرب في السودان، حيث لم تعد السيطرة على الأرض كافية، بل باتت السماء أيضًا ميدانًا للمعركة.
وفي غياب حل سياسي حقيقي، وتواصل انقسام المجتمع الدولي حول التعاطي مع الأزمة، ستبقى الطائرات المسيّرة تحوم في سماء السودان، ناقلةً معها رسائل الموت والخوف، وسط صمت العالم.
---
المصادر:
1. وكالة السودان للأنباء – سونا: https://suna-sd.net/
2. Africa Defense Review – Military Analysis
3. The Guardian – Drones in Modern Conflicts (Nov 2023)
4. Amnesty International – Sudan Report 2024
5. مركز الدراسات العسكرية – الخرطوم
6. Sudan Tribune – Armed Conflict Coverage (2024–2025)
0 Comments